Quantcast
Channel: المجلة »طوائف
Viewing all articles
Browse latest Browse all 4

بغداد.. مسرحية روميو وجوليت لكبح الطَّائفية

0
0
سروة رسول وأحمد مونيكا بطلا روميو وجولييت

سروة رسول وأحمد مونيكا بطلا روميو وجولييت

ما حصل، ومازال يحصل، مِن مقاتل وبغضاء وكراهية قد لا يعبر عنه عمل فني أو أدبي واحد. كانت الأحداث فظيعة، وعلى وجه الخصوص بين أعوام: 2005-2007، فأي روائي أو شاعر أو مخرج مسرحي يتمكن مِن ترجمة تلك الحوادث، فقد تعدت مواسم الأوبئة، التي لا تجيد التمثيل بالجنائز، ولا يخطر على البال أن الكشف عن أجساد بلا هوية، أي بلا رؤوس، وأن يصل الحال إلى إنزال الجنائز وحز رؤوس الموتى، وخلال أيام يكتشف الأزواج، مِن المذهبين أو الدِّينين، أنهم غرباء على بعضهما بعضاً، وإن لم يشعرا بهذه الغربة عليهما الافتراق تحت تهديد المسلحين، فكيف بالحب؟! فالمحنة أكبر مِن أن تروى وتتحول إلى عمل إبداعي، لذا مهما كان مستوى مسرحية روميو وجوليت في بغداد، ومهما قيل فيها، إلا أنها كانت عملاً معبراً عن هامش حالة عاشها العراقيون، الذين اكتشفوا أنهم يعيشون معاً على هذه الأرض لعشرات القرون خطأً.

لست ناقداً مسرحياً ولا كاتباً في هذا الفن، فأنا أتذوقه كغيري، وأشعر به مِن خلال تأثيره في عاطفتي، فوجدت هذا العمل، الذي كتبه وأخرجه الفنان مناضل داود، وساهم في التمثيل أحد أعمدة المسرح العراقي سامي عبد الحميد، ونخبة مِن الفنانين. كُتب ضد هذا العمل واتهم بالطائفية، أو تكريسها، ولم أشعر بهذا الشُّعور، على العكس، كان يسخر مِن الطَّائفية، وينبه إلى مخاطرها، ومخاطر محاولات فرض الحزن الدائم باسم الدِّين، فالمسرحية تقول، صراحة لا إيماءة: إن الإنسان الحزين يقل عمله ويُشل تفكيره، فلا بد مِن نسمات فرح.

كانت الاستعارة موفقة مِن نص الكاتب الإنكليزي وليام شكسبير (ت 1616)، أي استعارة الاسم ومشاهد، فربَّما لو استعار المخرج والمؤلف داود الاسم أو المشهد، مِن قصة أو ملحمة عشق عربية، كقيس وليلى مثلاً، سيفقدها مرونة العمل والحيادية، ويجعلها غارقة في المحلية، ناهيك عن المأساة التي في تلك الملاحم، فنظرية العشق العربية تعني أن يموت العاشق صبابةً وشوقاً، ويراد لروميو وجوليت بغداد الحياة. فقد أطلق عدد مِن الباحثين الغربيين وعرب على قصص الحب أو العشق العربية مسمى النظرية والفلسفة، تذكر الباحثة الألمانية لويس غفن (نظرية العشق العربية)، مِنهم: جولد تسهير، رتر، خون كرونبام، وجارلز نيلسون في كتابه «نظرية عصر النَّهضة في الحب». أما كلمة فلسفة فقد استخدمت مِنْ قبل باحثين عرب، مثل: عبد اللطيف شرارة في كتاب «فلسفة الحب عند العرب».

أقول: لامست مسرحية “روميو وجوليت في بغداد” المحنة العراقية، وحاولت تجاوز شدة الطَّائفية بقصة حب تحدث بين فتاة سُنَّية وشاب شيعي، وأن تكون الكنيسة هي المكان لإتمام اتفاق زواجهما، وأن يلعب المثقف، وهو مدرس التَّاريخ، دوراً في التنبيه لمخاطر ما يحدث، وأرى مؤلف المسرحية قد توفق في اختيار مدرس التاريخ لا غيره، لأن الطَّائفية وما يحدث مِن فظائع كافة تتم باستلهام التَّاريخ، والتَّركيز على المختلف لا المؤتلف فيها. فمثلما يستخدم الطَّائفيون حوادث التَّاريخ في تكريس الكراهية إلى حد الإقصاء والقتل، لابد مِن الكشف عن المؤتلف في التَّاريخ لمكافحة الكراهية.

سروة رسول وأحمد مونيكا بطلا روميو وجولييت

سروة رسول وأحمد مونيكا بطلا روميو وجولييت

ما حدث بالعراق أكبر مِن أن يوصف ويصور، إلى درجة تعددت قبور العراقيين، جثامين يغمرها الماء، وأُخر تترك في العراء للطيور الكاسرة والكلاب النَّاهشة. اختلفت مصائر جثامين القتلى، مَن هم برؤوس ومَن هم بلا رؤوس، ومَن تطايرت أعضاء جسمه في الهواء، وما أكثر الجنائز الرَّمزية، أي التوابيت الخالية، أو مَن عثرت على جمجمة ولدها وظلت تبحث عن ساق أو ذراع كي تتم الجنائزة.
لقد تباينت الأمم في قبور موتاها إلى مذاهب: الرمس في الثرى، وما يُحرق ويذرى في مياه الأنهر، ويحتفظ ببقية منه في زجاجة، وقيل من عوائد الفرس القدماء اتخاذ العراء قبراً: جوف وادٍ أو قمة جبل، بطن نسر أو عقاب. وهذا ما تمناه شاعر الخوارج الطِرماح بن الحكيم (ت 125هـ)، عندما قال: “ولكن قبري بطن نسر مقيله.. بجوِ السماء في نسور عواكف: (الأصفهاني ـ الأغاني).

كذلك جعل الشاعر أبو الحسن الأنباري (ت 380هـ) الجو قبراً للوزير ابن بقية (367هـ)، الذي أُعدم وصُلب من قبل عَضد الدولة البويهي، ومما قاله راثياً: “أقاموا الجو قبرك واستنابوا.. عن الأكفان ثوب السافيات (الرياح)” (وفيات الأعيان). ومثل ذلك تخيل أبو تمام (ت 231هـ) جسد القائد الأفشين، المصلوب بسامراء: “رمقوا أعالي جذعه فكأنما.. رمقوا الهلال عشية الإفطار”(الوفيات). وبعدهما تمنى الجواهري (ت 1997) للرصافي (ت 1945) قبراً معلقاً في الهواء: “ليت السماءَ الأرضُ ليت مدارها.. للعبقريِّ به مكان شهاب.. يُوما له ويُقال: ذاك شعاعه.. لا محضُ أخبار ومحض كتاب”(الدِّيوان).
كل هذا يمكن استيعابه من عوائد الأديان في جثامين أتباعها، وما تمناه الشعراء من قبور الهواء. لكن، وعلى الرغم من تعدد مشارب القسوة في التاريخ، فليس للمخيلة اختلاق مشهد ذرّى أجساد البشر عبر فرامة إلى أفواه الوحوش، إذا لم يكن قد مرَّ على المتخيلين زمن اختلط فيه المعقول واللامعقول. وإن استبعدنا أمر الفرامة، التي قال بول بريمر، لأحد المستفسرين، إنها موجودة لديهم، وربما ظهرت في متحف من متاحف الرعب يوماً ما، فلا يستبعد توحش “عرائس البحار”، وما عثر من أصابع وخواتم في أجوافها.

لقد جعل تزاحم القتلى، في ثلاجات دائرة الطب العدلي وخارجه، الأرض تضيق، ولم تعد مقبرة وادي السلام بالنجف، ولا مقابر بغداد: الشيخ معروف، والغزالي، والخيزران كافية. إنها مرحلة التداخل بين الحقيقة والخيال، يصعب فهمها، وتحليل ما وراءها. فمَنْ التهمته الأسماك حُسب مع حساب المفقودين، فلا شاهد قبر يدل عليه، ولا جثة يصلى عليها، ويناح حولها.
لتكن مسرحية روميو وجوليت في بغداد بداية لمحاولات فنية أُخر، لفضح الموت الأرقط باسم الدين والمذهب، وتكريس الحب والوئام. لقد عكست المسرحية انتصار الحب وهزيمة قوى الشَّر أمامه، إضافة غرضها الوطني والإنساني إنها بشرت أن العراق ما زال يلد الفنانين والأرواح الخيرة، فأغلب الممثلين كانوا مِن الشَّباب الواعدين، وقفوا إلى جانب أعمدة في المسرح والعراقي، ممن ولد تحت ويل الحروب وبؤس الحصار، وها هم يحملون الأمل في مجابهة طائفية وحشية انحط فيها حلم الأمهات بجنازة تامة وقبور لأولادهنَّ.

The post بغداد.. مسرحية روميو وجوليت لكبح الطَّائفية appeared first on المجلة.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 4

Latest Images

Trending Articles





Latest Images